حسب ما جاء في مقال على شبكة الحدود فإنّ دراسة تخصّصين جامعيين معًا سيؤدّي بالمواطن العربي لأن يصبح عاطلًا عن عملين بدلًا من عاطل عن عمل واحد.
يقول الكاتب على لسان الطالب خليل في إحدى الفقرات:
ويقول خليل إنه أقدم على هذه الخطوة بعد ملاحظته تسارع نمو قطاع البطالة، وتزايد الإقبال عليه “فقررت دراسة تخصصين لأتقدم على زملائي ذوي التخصص الواحد، وأحرز موقعاً متقدماً في هذا المجال الذي سيكون له مستقبل مزدهر”.
أرجو أن تكون هذه المقدّمة الفكاهية قد روّحت قليلًا عنك، فأنا أعلم معنى أن تكون سوريًّا مقيمًا في سوريا، وهذا لعمري سببٌ كافٍ للإعفاء من أهوال يوم القيامة.
إذا كان التخصّصان الجامعيّان بعيدان عن بعضهما كثيرًا فإنّك تكسب شيئًا وتخسر شيئًا مقابلًا، تكسب أنّك وسّعت فرصك على نطاقٍ عريض، مثلًا لو كان أحد الاختصاصين الجغرافيا والآخر الإلكترونيات، فإنّك قد تعمل في تدريس الجغرافيا، وقد تعمل في تصنيع أو صيانة الإلكترونيات، لكنّك تخسر الكثير من الوقت، وبفرض أنّك تدرسهما معًا لاختصار الوقت فأنت تغامر بالفشل بكليهما لأنّ الوقت الذي يدرس فيه الشخص العادي لفرعٍ جامعيّ واحد، رحت أنت تقسمه على فرعين، وإذا علمنا أنّ نسبة الرسوب أصلًا ليست قليلة بالنسبة لمن يدرسون فرعًا واحدًا فأنت تغامر بالكثير الكثير، ليس هذا فحسب بل أنت تضيع فرصة التفوّق في مجالك، فلو أنّك وجّهت جهودك كلّها باتّجاهٍ واحد فسوف تتفوّق وبغضّ النظر عن الجوائز أو المنح التي قد تحصل عليها فالتفوّق في مجالك أفضل من دخولك عدة مجالات على أمل زيادة فرص العمل.
أمّا إن كان التخصّصان الجامعيّان قريبان من بعضهما ولنقل إنّهما “متكاملان” مثل دراسة الرياضيّات والبرمجة، يبدو أنّ هذين الاختصاصين منفصلين، وهما بالفعل يُدرَسان كلّ على حدة، لكنّ تشابكهما كبير جدًا، ولو أنّني بالغتُ قليلًا بكلمة “تشابك” لأنّها قد تعني تبادل مدّ الصلات، بينما من يمتدّ داخل الآخر هو الرياضيّات(*)، وليس العكس (بشكلٍ عامّ)، المهمّ إنّ دراسة هذين التخصّين معًا سيتولّد عنها مبرمج فائق الخبرة والإبداع، وهكذا في أيّ تخصّين قريبين من بعضهما البعض كالكيمياء والصيدلة، أو الجيولوجيا والهندسة المدنية(**)، أو البرمجة وتصميم الجرافيكس، أو عدّة لغات وآداب معًا مثل الأدب العربي والأدب الفرنسي حيث سينتج أديبًا ومترجمًا ..الخ
لكن ما هي الخسائر؟ هنا تقريبًا لا يوجد خسائر، لأنّ الوقت المصروف في دراسة التخصّص الثاني (أيًا كان الترتيب) يمكن اعتباره استمرارًا للدراسة الأولى أو ما يشبه الدراسة التخصصية كالطبيب الذي يتخصّص في طبّ العيون، وبشكلٍ عامّ اليوم بات هذا النمط من الخبرات مطلوبًا بشدّة، مثلًا يُطلب مترجم من اللغة الإنكليزية للعربية لكن في مجال السياسة، أو يُطلب صيدلاني لكن للعمل في إدارة مصنع أدوية أي بحاجة لتخصّص إضافي وهو الإدارة(***).
تعقيبات على أمثلتي أعلاه:
(*) تداخل الرياضيات والبرمجة بشكل عامّ هو من جهة واحدة، فالرياضيّات أساسٌ مهمّ من أساسات البرمجة بل هو الأساس الأهمّ، وفيما مضى قبل استقلال البرمجة كان الرياضيّون هم المبرمجون، ويُعد عالم الرياضيات البارز آلان تورينغ الأب الروحي للحواسيب وجميع من عمل معه كانوا من الرياضيين، لكن اليوم بعد تضخّم العلوم وتشعّبها باتت الحواسيب تساعد جميع العلوم ومن بينها الرياضيات وانظر إجابتي على سؤال ما هو أهم إثبات حسابي تم اكتشافه من خلال الكمبيوتر؟
(**) قد يقول الصيدلاني، لقد درستُ كيمياء بما فيه الكفاية، وكذلك المهندس المدني إني درست جيولوجيا ورياضيات بما فيه الكفاية، بل ويقولون أكثر من ذلك فقد سمعتُ بأذني من مهندسي البرمجيّات من يقول درستُ رياضيّات أكثر من طلاب الرياضيات أنفسهم، وهذا خاطئ جملةً وتفصيلًا، وهذا واضح من حجم الموادّ الدرسية وعددها، فجميع الفروع العلمية تحتاج لأساسيات في الفيزياء والكيمياء والرياضيات لكن ما يتعلّمونه هو ما يكفيهم لممارسة مهنتهم فقط.
(***) اليوم أصبحت الفروع الدراسية متفرّعة إلى درجة أنّ هناك تخصّصات مثل “الإدارة الطبية” تغني عن المثال الذي طرحته أعلاه (صيدلة + إدارة) لكن كما أسلفت فإنّ التوسّع في تخصّص معيّن وهضمه بشكل كامل ثمّ التوسّع في تخصّص آخر، سيعطي مزيجًا فريدًا بحسب شخصية الدارس، ولا أستطيع الجزم بأنّه أفضل أو أسوأ من التخصّص الرسمي الناتج عن مزجهمها ببعض.