قبل الانتقام أو المحاكمات شاهدوا فيلم الموت والعذراء
في كلّ مرحلة انتقالية تعقب سقوط نظام ديكتاتوري، تواجه المجتمعات أزمة معقّدة بين الرغبة في الثأر وتحقيق العدالة من جهة، والتصالح المجتمعي والعفو العام من جهةٍ ثانية.
العدالة الانتقاليّة ليست مجرّد محاكمات للجناة في زمن الديكتاتورية، بل هي عملية شاملة تهدف إلى معالجة إرث الماضي دون التضحية باستقرار المستقبل، وفي سوريا ومع حجم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام بدءًا برأسه وصولًا لأصغر فردٍ في منظومته الأمنية القمعيّة، قد يجد السوريّون أنفسهم في صراعٍ داخليّ بين الحاجة إلى الانتقام والاقتصاص ممّن كانوا في الأمس القريب لا يتورّعون عن ارتكاب أفظع الجرائم، أو العفو والصلح العامّ أملًا في فتح صفحةٍ جديدة تنعم فيها البلاد بالاطمئنان.
ولأنّ التاريخ ما فتئ يعيد نفسه فقد مرّت بهذه الحال دولٌ عديدة، وبخاصّة في أمريكا اللاتينية، جاء فيلم “الموت والعذراء” (Death and the Maiden) ليقدّم رؤيةً فنيّةً وأخلاقيّةً عميقة تُبرز تحدّيات العدالة في مرحلة ما بعد الديكتاتورية في دولةٍ لم تُسمَّ صراحةً، يظنّ النقّاد إنّها التشيلي أو الأرجنتين.
ملخّص الفيلم (لا يغني عن مشاهدته)
يروي فيلم “الموت والعذراء” قصة ناشطة (بولينا) ناجية من التعذيب في المعتقلات خلال حقبة حكمٍ ديكتاتوريّ في بلدٍ ما، وبعد سقوط النظام تعيش الناشطة مع زوجها الذي كان ناشطًا حقوقيًا، ثمّ يُعيّنه الرئيس الجديد في لجنة تحقيق للكشف عن جرائم الحقبة السابقة. في إحدى الليالي، يصل إلى منزلهم ضيف غير متوقع وهو الدكتور ميراندا، الذي تظنّ بولينا أنّه جلادها السابق، بناءً على صوته ورائحته، فتقوم بولينا باحتجازه وتجبره على الاعتراف بجريمته، بينما يحاول زوجها إقناعها بأنّ هذه الطريقة ليست هي الطريقة الصحيحة، ولا يجوز لها أن تكون الضحيّة والشاهد والقاضي في نفس الوقت وعليها اتّباع الإجراءات القانونية، لكنّها تصرّ على أنّها يجب أن تحصل على الاعتراف ولا يهمّها فيما بعد إن نال المجرم عقوبته أمْ لا، لأنّها لن تستطيع بكلّ الأحوال الحصول على حقّها، فقد اغتُصبت في السجن، لكنها لن تستطيع اغتصاب السجّان فهي امرأة، ينتهي الفيلم بترك مصير الدكتور ميراندا غامضًا، مما يطرح تساؤلات عديدة، مثل: هل كانت بولينا محقّة ولم تكن تهذي، فقد اعتمدت على سمعها فقط في تحديد هوية الجاني، كما أنّها تعاني من مشاكل نفسية ونوبات هلع، قد تفقد على إثرها أهليّتها أمام المحكمة الرسمية، وهل كان اعتراف الدكتور حقيقيًا أم كان لمجاراتها وللنجاة بنفسه؟ وهل يمكن لزوجها أن يغيّر رأيه في اللحظة الأخيرة بعد سماع الاعتراف ويحاول الاقتصاص بيده ويخالف مبادئه ومبادئ اللجنة التي يعمل بها؟
عبر التاريخ، شهدت العديد من الدول مراحل انتقالية معقدة بعد سقوط أنظمة قمعية، منها:
- الأرجنتين في ثمانينيات القرن الماضي حيث أجريت محاكمات جزئية بينما نجا الكثيرون من العدالة.
- جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام الفصل العنصري، لجأت البلاد إلى لجان الحقيقة والمصالحة بدلاً من المحاكمات التقليدية لضمان السلم الأهلي.
- رواندا عقب الإبادة الجماعية أُنشئت محاكم شعبية عُرفت بمحاكم الغاكاكا لتحقيق العدالة والمصالحة، وهي أشهر مثال عن حالات المصالحة والوئام المجتمعي بعد فترة شديدة الدموية.
- العراق بعد سقوط نظام صدام حسين شهد العراق محاكمات مثيرة للجدل لكبار المسؤولين في النظام، لكنها وبالرغم من أنّها كانت رسمية، إلّا أنّها بدت كمحاكمات كيديّة، ولم تحقّق أيّ فارق على الأرض وعمّت الفوضى البلاد.
كما هو الحال في فيلم “الموت والعذراء” والدول المذكورة آنفًا، ستواجه سوريا بعد سقوط نظام الأسد معضلةً كبرى في كيفية التعامل مع إرث الجرائم والانتهاكات، فحتى لو استثنينا أفراد الجيش النظامي المجنّدين إجباريًا، فقد كان يرتع على أرض سوريا أكثر من مئة ألف مقاتل يتبع مليشيات طائفية ساهموا في قتل مليون سوري وتشريد عشرة ملايين، واعتقال مئات الآلاف، اختفى منهم ربع مليون، يُعتقد أنّهم مدفونين في مقابر جماعية، استطاع محقّقون أمميّون تحديد هويّات أربعة آلاف مجرم حرب منهم بعد سماع 11 ألف شهادة من ضحايا الانتهاكات، وما زالت التحقيقات مستمرّة ممّا يرشّح القائمة لتكون أطول وأطول.
إنّ عدد الضحايا الهائل في سوريا مقارنةً بعدد سكّانها يجعل كلّ السوريين تقريبًا أصحاب ثأرٍ وأولياء دمّ، حيث قُتِل أو أصيب أو اعتُقِل شخصٌ من بين كلّ عشرة، وهُجّر شخصٌ من كلّ اثنين. في المقابل فإنّ عدد الجلادين كبيرٌ جدًا، ولا يقتصر الأمر على القيادات الكبيرة فحسب، لأنّ فترة الثورة الطويلة لن تسمح لمرتكبي الجرائم الصغار الادّعاء بأنّهم كانوا جاهلين أو مغيّبين أو مجبرين على تنفيذ الأوامر وبخاصّة في زمن الاتصالات الحالي، حيث تُصنّف الثورة السورية على أنّها الحرب الأكثر تغطيةً إعلامية في التاريخ، وقد شاهد ملايين البشر كيف يختنق المدنيّون بالغازات السامّة عبر البثّ المباشر!
إنّ الحديث عن العفو العام غير المشروط عن جميع الجرائم وعلى الرغم ممّا يحمله هذا القرار (إن حصل) من تسامح وملائكيّة لا توجد حتّى في قصص الأطفال، فإنّه لن يشفي صدور المكلومين، وقد يسبّب من الفوضى أكثر مما سيمنعها، وهنا بيت القصيد من نصيحتنا بمشاهدة فيلم الموت والعذراء، فكما لاحظنا فإنّ البطلة قد رضيت بأمرين لم يتضمّنا قتل المجرم، هما: اعتراف المجرم بجريمته وتصديق المجتمع (زوجها) لروايتها وعدم إنكار ما مرّت به أو اتهامها باختلاق الأحداث تحت تأثير صدمتها.
كما أشار الفيلم إلى أنّ الإجراءات القانونية والتحقيقات التي تتّسم بالبيروقراطية ستصيب أصحاب المظالم بالملل والإحباط واليأس، وسيلجؤون لتنفيذ العدالة بأيديهم لكسر ذاك الجمود، أمّا أكبر العقبات التي تعيق الاستقرار وقد تدمّر كلّ مكتسبات الثورة فهي أن يحافظ رجال النظام الساقط على مواقعهم أو يتمّ تكليفهم بمهامّ ومسؤوليات جديدة في العهد الجديد، ممّا يؤدّي مباشرة إلى فقدان الثقة بالنظام الجديد.
بعض الحلول المقترحة لمواجهة هذه الأزمة
- تأسيس لجان عدالة انتقالية: لجمع الأدلة والشهادات وتحقيق المحاسبة الشاملة.
- ضمان المحاكمات العادلة: إنشاء محاكم خاصة تضمن محاسبة المسؤولين عن الجرائم.
- التثقيف والوعي: نشر ثقافة التسامح والمصالحة دون إغفال العدالة.
- برامج دعم الضحايا: تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والمالي للناجين من الجرائم، والاستماع لقصصهم.
- منع إعادة تدوير رموز النظام: تطهير المؤسسات من الجلادين السابقين لضمان بناء نظام جديد شفاف.
نُشر هذا المقال في موقع تلفزيون سوريا بتاريخ 23-12-2024
المصادر
بالتفاصيل والأرقام.. رصد شامل للميليشيات الإيرانية في سوريا
محققون أمميون يحددون هويات 4 آلاف من مرتكبي جرائم الحرب في سوريا
تقرير الأمم المتّحدة عن المعتقلات السورية باعتبارها أداة للقمع
فيلم الموت والعذراء على قاعدة بيانات الأفلام IMDB
ربما تكون الحرب السورية الأكثر توثيقًا في التاريخ – ومع ذلك لا نعرف عنها سوى القليل