فتاوى اقتصادية ضيّعت على المسلمين القيادة والريادة
كُتِبَت ونُشِرت الكثير من الموادّ والأبحاث التي تجمع الفتاوى الإسلاميّة التي كانت تحرّم التعامل بأشياء أو استخدام أدواتٍ أو تناول مشروباتٍ ومأكولاتٍ كانت حديثة العهد على المجتمعات المسلمة، وتبيّن فيما بعد عدم صواب تحريمها، فصدرت فتاوى معاكسة لتلك التي حرَّمت في السابق، وفي هذا الصدد تطول القائمة وتتشعّب ولا تخلو من دسٍّ أو لغو.
في هذا المقال سأناقش موضوعًا آخر له نفس الجذور (التحريم لما هو جديد) لكنّ تأثيره كان أعمق ممّا يمكن أن يدركه عالِم دينٍ ألقى بفتواه التي قصد بها إراحة رأسه وضميره – كما حسِب – وحرّم الأمر وأنهى الموضوع، فقد نالت الفتاوى التي أقصدها من سيادة المسلمين أو على الأقلّ من مكانتهم الحضاريّة بين دول العالم لأنّها مسّت الجانب الاقتصادي وبالتالي السياسيّ.
من المعروف أنّ الربا محرّم في الإسلام والمسيحيّة وجزئيًّا في اليهوديّة، حيث أوجد اليهود مخرجًا لهذه المعضلة، وكان تحريم الربا لديهم مقتصرًا على التعاملات فيما بينهم، بينما يجوز لليهودي أن يُقرِض غير اليهودي مع أخذه للفائدة، هذه الحال جعلت اليهود يتصدّرون المشهد الاقتصادي لمئات أو لآلاف السنين، حيث كانوا يُقرِضون المسيحيين والوثنيين وفيما بعد المسلمين ويفرضون على المدين ضرائب باهظة تتراكم فيما بعد حتّى يضطّر المدين لبيع كلّ ما يملك لسداد دينه، رغم أنّ هذا الفعل كان منبوذًا ومحرّمًا إلا أنّه كان رائجًا لأنّ حاجة الناس للاقتراض ما زالت موجودة، فارتكب المؤمنون المسيحيّون والمسلمون نصف الحرام مُكرَهين في ظلّ عدم وجود «القرض الحسَن» بديلًا للقرض الربوي أو لعدم كفايته، وهذا ما دارت حوله أحداث مسرحيّة تاجر البندقيّة للكاتب الإنكليزي وليام شيكسبير.
هذا الأمر جعل اليهود رغم قلّة عددهم يمتلكون النصيب الأكبر من المال في أوروبا والعالم فيما بعد، ولم يستطِع المسيحيّون وبطبيعة الحال المسلمون أيضًا اللحاق بهم، لأنّهم بأموالهم هذه امتلكوا التأثير في القرار السياسي والذي سيكون متناغمًا على الدوام مع المصالح الماليّة لهم.
استفاق المسيحيّون وأدركوا الفارق الذي حصل لكنّهم لم يصلوا لحلّ وسط فهمّشوا دور الكنيسة، وركبوا الموجات الاقتصادية التالية، فلم يوفّروا بورصات أو نظامًا رأسماليًا أو اشتراكيًّا أو سندات أو أسهمًا… إلخ وتقاسموا السيادة الماليّة العالميّة مع اليهود، بينما بقي المسلمون أسرى فتاويهم، وأقول فتاويهم وليس أحكام دينهم، لأنّ ما حصل فيما بعد لم يكن كتحريم الربا الذي جاء بنصٍّ قرآني صريح كما جاء قبله الإنجيل والزبور والتوراة بالتحريم، بل كانت الفتاوى التحريميّة تأتي نتيجة اجتهاد الفقهاء الذين تبيّن لنا فيما بعد أنّهم على العكس لم يجتهدوا بل اتّبعوا الطريق الأسلَم لهم وهو إنهاء أيّة مسألة بتحريمها بسبب دخولهم في مغالطة المنحدر الزلق وأشهر مثال على ذلك هو تحريم المطبعة خشية تحريف القرآن في القرن الخامس عشر، وهنا مرّةً أخرى يكون لليهود الأسبقيّة حيث سُمِح لهم بإنشاء المطابع في حلب والقاهرة التي كانت تتبع السلطنة العثمانية.
تتالت التحريمات كما أسلفنا على كلّ من البورصات، والأسهم، والبنوك، وشركات التأمين، وكما هو معروف فإنّ هذه الأمور هي عصب الاقتصاد العالمي اليوم، وبدلًا من إيجاد حلول اقتصاديّة إسلاميّة فعّالة وليست نظريّة كان التصدّي من العلماء الذين لا يعلمون سوى كلمة «لا يجوز»، ممّا ساهم في تفاقم تأخّر المسلمين، حيث جاءت فكرة البنوك الإسلامية بعد خمسمائة عام من افتتاح أول بنك في العالم في فينيسيا الإيطالية، وكذلك البورصات جاءت بعد ثلاثمائة سنة من افتتاح أول بورصة في العالم بهولندا.
إنّ عدم وجود مكافئات إسلاميّة للمفاهيم السابقة بالإضافة إلى الحاجة الماسّة للتعامل مع هذه «المحرّمات» تسبّب في عدّة أمورٍ خطيرة هي: أوّلًا تعامل المسلمين مع تلك المؤسّسات والشركات الأجنبيّة كزبائن وليس كشركاء أو مؤسّسين رغم وجود الكثير من الثروات بين أيديهم، ثانيًا الخضوع لقوانين تلك الجهات الأجنبيّة والغرق فيها بحيث كان أهون المحرّمات هو البدء بالتعامل معهم، ثالثًا تسرّبت الأموال والثروات من بين أيدي المسلمين إلى البنوك الغربيّة، والتي تحوّلت شيئًا فشيئًا إلى أرقام على شاشات إلكترونية بعدما كانت أصولًا ذهبيّة، رابعًا عقدة الذنب التي كانت تلاحق العملاء المسلمين الذين رغم اضطرارهم لهذه التعاملات لم يكونوا مرتاحي الضمير بسبب مطاردة الفتاوى التكفيريّة لهم.
لم يترك الفقهاء بابًا إلا وفصّلوا فيه واجتهدوا حرصًا على المسلمين لكن بأفقٍ ضيّق جدًّا حيث كانت أحكامهم آنيّة، فمثلًا أباحوا الزواج بنيّة الطلاق للمسلم الذي يسافر إلى بلادٍ غير مسلمة حرصًا على عدم وقوع المسلم في الزنا، بينما حرّموا إسقاط الجنين الذي تثبت إعاقته الشديدة التي ستقلب حياة عائلته رأسًا على عقب وترهقهم بمصاريفَ على علاجٍ لا طائل منه سوى إطالة معاناة الولد والأهل، متجاهلين الضرر بعيد المدى الذي سيصيب عدّة أفرادٍ مسلمين، وكذلك يكون ردّهم على مسائل اقتصاديّة شائكة بأنّ الله هو الرزّاق، وبأنّ القرض الحسن هو الحلّ، وبأنّه لا مفرّ من قضاء الله وقدره بالتأمين… إلخ. أو إنّهم يضعون شروطًا تكاد تكون من محتلّ ديكتاتور لجواز التعامل مع تلك المؤسّسات الكافرة، أبرزها عدم تعامل أيّة مؤسّسة منها بالمحرّمات ويُقصَد بالمحرّمات كلّ ما لم يستخدمه الصحابة: الصور، الرسم، الموسيقى، التلفزيون.
آخر ما حُرّر من فتاوى التحريم هو تحريم التعامل بالتسويق الشبكيّ، تبعه تحريم تجارة العملات الإلكترونيّة، وهناك العديد من الحجج لهذا التحريم، منها أنّ الكسب السريع بلا جهد حرام، أو أنّك تتعامل مع أشياء غير ملموسة، وهذا يذكّرنا بالملحد الذي سخرنا منه جميعنا حين قال «أين الله» فأنا لا أراه ولا أسمعه ولا أشمه فهو غير موجود.
أنا أتفهّم أنّ كلّ إنسان يتمسّك بمصدر رزقه والإنسان بطبعه يميل للتمسّك بالقديم الموروث أكثر من الجديد الثوري غير المألوف، لكن ليّ عنق الشواهد ليناسب أفقنا الضيّق سيكون ذا مفعولٍ كارثيّ، وهذا لا يعني أنّي أدعو للتفلّت من الأحكام الإسلامية على الإطلاق، بل أدعو إلى إعمال العقل واستخراج حلول تلائم أحكام الإسلام ولا تعزل المسلمين عن العالم، فالعقول التي أنتجت البنك الإسلامي ليست أذكى ممّن يجد مبرّرات بنكهة إسلاميّة لمن يستنجد بقواعد الغرب العسكريّة أو يطلق الرصاص الحيّ على شعبٍ أعزل.
نُشِرت هذه المقالة بتاريخ 13-11-2017 في ساسة بوست